من المقرر في مجال القضاء أن القاضي لا يستطيع إصدار حكم عادل على أطراف القضية إلا بعد أن يكون على علم بملابسات تلك القضية، والظروف التي أحاطت بها؛ ومثل ذلك يقال في مجال الإفتاء والمفتين، فإن المفتي الحاذق لا يفتي في مسألة تُعرض عليه إلا بعد أن يقف على طبيعة المستفتي، وطبيعة الفتوى، وطبيعة الزمان والمكان التي تحيط بالمستفتي، وهذا لا يسع أحد إنكاره .
وما يقال في مجالي القضاء والإفتاء يقال في مجال تفسير القرآن الكريم أيضاً؛ فإن المفسر الأقرب إلى الصواب، والأدنى إلى الوقوف على مراد الله من الآيات، هو ذاك المفسر الذي يكون على معرفة بالظروف التي نزلت بسببها الآيات، والأحوال التي رافقت نزولها .
وتأسيساً على هذه القاعدة المهمة في التفسير، لنا وقفة مع قوله تعالى: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } (البقرة:114) لنرى الأسباب التي نزلت لأجلها الآية الكريمة .
ذكر المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها قولين:
أحدهما: أنهم النصارى، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد؛ وروى عبد الرزاق عن قتادة، قال: هو بختنصر وأصحابه، خرب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى؛ وإنما أعانه الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا عليه السلام، فحاصل هذا القول أن الذم الوارد في الآية المقصود منه النصارى الذين منعوا الناس من العبادة في بيت المقدس .
ثانيهما: ما رواه الطبري عن ابن زيد، قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة، حتى نحر هديه بذي طوى، وهادنهم وقال لهم: ( ما كان أحد يصد عن هذا البيت، وقد كان الرجل، يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده ) فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق .
وروى ابن اسحاق في "سيرته" عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه... } الآية، وحاصل هذا القول أن المقصود بالآية المشركين الذين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخول المسجد الحرام، وصدوه عنه .
هذا على الجملة ما يذكره المفسرون من أسباب نزول هذه الآية. ثم إن الطبري اختار القول الأول في سبب نـزول هذه الآية، فقال: " وأولى التأويلات بتأويل الآية، قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه }، النصارى "، واحتج لاختياره بأن المشركين لم يحدث منهم خراب للبيت الحرام، أما النصارى فقد جرى منهم خراب لبيت المقدس؛ واحتج له أيضاً أن الحديث ما قبل الآية وما بعدها، جاء عن اليهود والنصارى، ولا ذكر للبيت الحرام، فكان الأليق حمل سبب النـزول على ما وافق ما قبلها وما بعدها .
أما ابن كثير فقد مال إلى أن الآية نزلت في مشركي مكة، واستدل لذلك بأن الآيات السابقة لهذه الآية كان موضوعها ذمُّ اليهود والنصارى، ثم أتبع ذلك سبحانه بذمِّ مشركي مكة على ما كان منهم، ورد استدلال الطبري بأن قال: " فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم " .
وقد نحا هذا المنحى الشيخ ابن عاشور، فلم يوافق الطبري في اختياره، بل قرر أن سياق الآيات يرشح القول بأن الآية نزلت في مشركي مكة، وذلك أنه سبحانه بعد أن فضح نوايا أهل الكتاب تجاه دين الإسلام وأهله، وبين أن ذلك دأبهم وشأنهم مع كل من جاءهم بما يخالف هواهم، وقد أشار سبحانه إلى أن المشركين شابهوهم في ذلك، حيث قال: { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم } (البقرة:105)، نقول: بعد أن فضح سبحانه نوايا أهل الكتاب، عطف على ذلك ببيان ما تفرع عن كره المشركين لنـزول القرآن، فبيَّن أن ظلمهم في ذلك لم يبلغه أحد ممن قبلهم؛ إذ منعوا مساجد الله، وسدوا طريق الهدى، وحالوا بين الناس وبين زيارة المسجد الحرام، الذي هو فخرهم، وسبب مكانتهم، وبيَّن أيضاً أن هذا ليس شأن من يطلب صلاح الخلق، بل هذا شأن الحاسد المغتاظ .
والذي يؤيد ما ذهب إليه ابن كثير وابن عاشور في سبب نزول هذه الآية، قوله سبحانه: { وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } (الأنفال:34)، وقوله أيضاً: { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } (الفتح:25)، فهاتان الآيتان تدلان على أن الصدَّ عن المسجد الحرام إنما كان من المشركين العرب .
وكون هذه الآية نزلت في مشركي العرب، لا يعني أنها لا تتناول غيرهم ممن يصدُّ عن ذكر الله، ويمنع الناس من إقامة ما أمر الله به أن يقام؛ فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والذمُّ في الآية يتناول كل من منع مساجد الله أن يعبد الله فيها حق العبادة؛ إذ المقصد الأساس من إقامتها عبادة الله، فكل ما يعود على هذا المقصد بالإبطال والإلغاء يكون مانعاً لهذه المساجد من أداء رسالتها التي قامت لأدائها، ويكون أيضاً مخرباً لها ومعطلاً لمقصدها الأساس، وحُقَّ بمن يفعل ذلك أن يوصف بأنه من أظلم الظالمين .
ويرشد لهذا العموم صيغة الجمع في قوله تعالى: { مساجد الله }، فهذه الصيغة (مساجد) تفيد أن المنع ليس محصوراً على ما حصل في المسجد الحرام، بل يشمل أيضاً كل من يمنع الناس ويصدهم عن عبادة الله في أي مسجد من مساجد الأرض، وتلك جريمة عظيمة يستحق فاعلها عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة .
فإذا تبين لنا مقصود هذه الآية، علمنا عاقبة الشيوعيين الذين عطلوا أربعة عشر ألفاً من المساجد في سمرقند إبان الثورة الروسية، وعلمنا أيضاً عاقبة اليهود الذين يمنعون الناس ويصدونهم عن المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وعلمنا أيضاً عاقبة من يمنع المسلمين في بلاد الإسلام من العبادة في المساجد التي أذن الله أن يُذكر فيها اسمه
وما يقال في مجالي القضاء والإفتاء يقال في مجال تفسير القرآن الكريم أيضاً؛ فإن المفسر الأقرب إلى الصواب، والأدنى إلى الوقوف على مراد الله من الآيات، هو ذاك المفسر الذي يكون على معرفة بالظروف التي نزلت بسببها الآيات، والأحوال التي رافقت نزولها .
وتأسيساً على هذه القاعدة المهمة في التفسير، لنا وقفة مع قوله تعالى: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } (البقرة:114) لنرى الأسباب التي نزلت لأجلها الآية الكريمة .
ذكر المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها قولين:
أحدهما: أنهم النصارى، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد؛ وروى عبد الرزاق عن قتادة، قال: هو بختنصر وأصحابه، خرب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى؛ وإنما أعانه الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا عليه السلام، فحاصل هذا القول أن الذم الوارد في الآية المقصود منه النصارى الذين منعوا الناس من العبادة في بيت المقدس .
ثانيهما: ما رواه الطبري عن ابن زيد، قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة، حتى نحر هديه بذي طوى، وهادنهم وقال لهم: ( ما كان أحد يصد عن هذا البيت، وقد كان الرجل، يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده ) فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق .
وروى ابن اسحاق في "سيرته" عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه... } الآية، وحاصل هذا القول أن المقصود بالآية المشركين الذين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخول المسجد الحرام، وصدوه عنه .
هذا على الجملة ما يذكره المفسرون من أسباب نزول هذه الآية. ثم إن الطبري اختار القول الأول في سبب نـزول هذه الآية، فقال: " وأولى التأويلات بتأويل الآية، قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه }، النصارى "، واحتج لاختياره بأن المشركين لم يحدث منهم خراب للبيت الحرام، أما النصارى فقد جرى منهم خراب لبيت المقدس؛ واحتج له أيضاً أن الحديث ما قبل الآية وما بعدها، جاء عن اليهود والنصارى، ولا ذكر للبيت الحرام، فكان الأليق حمل سبب النـزول على ما وافق ما قبلها وما بعدها .
أما ابن كثير فقد مال إلى أن الآية نزلت في مشركي مكة، واستدل لذلك بأن الآيات السابقة لهذه الآية كان موضوعها ذمُّ اليهود والنصارى، ثم أتبع ذلك سبحانه بذمِّ مشركي مكة على ما كان منهم، ورد استدلال الطبري بأن قال: " فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم " .
وقد نحا هذا المنحى الشيخ ابن عاشور، فلم يوافق الطبري في اختياره، بل قرر أن سياق الآيات يرشح القول بأن الآية نزلت في مشركي مكة، وذلك أنه سبحانه بعد أن فضح نوايا أهل الكتاب تجاه دين الإسلام وأهله، وبين أن ذلك دأبهم وشأنهم مع كل من جاءهم بما يخالف هواهم، وقد أشار سبحانه إلى أن المشركين شابهوهم في ذلك، حيث قال: { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم } (البقرة:105)، نقول: بعد أن فضح سبحانه نوايا أهل الكتاب، عطف على ذلك ببيان ما تفرع عن كره المشركين لنـزول القرآن، فبيَّن أن ظلمهم في ذلك لم يبلغه أحد ممن قبلهم؛ إذ منعوا مساجد الله، وسدوا طريق الهدى، وحالوا بين الناس وبين زيارة المسجد الحرام، الذي هو فخرهم، وسبب مكانتهم، وبيَّن أيضاً أن هذا ليس شأن من يطلب صلاح الخلق، بل هذا شأن الحاسد المغتاظ .
والذي يؤيد ما ذهب إليه ابن كثير وابن عاشور في سبب نزول هذه الآية، قوله سبحانه: { وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } (الأنفال:34)، وقوله أيضاً: { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } (الفتح:25)، فهاتان الآيتان تدلان على أن الصدَّ عن المسجد الحرام إنما كان من المشركين العرب .
وكون هذه الآية نزلت في مشركي العرب، لا يعني أنها لا تتناول غيرهم ممن يصدُّ عن ذكر الله، ويمنع الناس من إقامة ما أمر الله به أن يقام؛ فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والذمُّ في الآية يتناول كل من منع مساجد الله أن يعبد الله فيها حق العبادة؛ إذ المقصد الأساس من إقامتها عبادة الله، فكل ما يعود على هذا المقصد بالإبطال والإلغاء يكون مانعاً لهذه المساجد من أداء رسالتها التي قامت لأدائها، ويكون أيضاً مخرباً لها ومعطلاً لمقصدها الأساس، وحُقَّ بمن يفعل ذلك أن يوصف بأنه من أظلم الظالمين .
ويرشد لهذا العموم صيغة الجمع في قوله تعالى: { مساجد الله }، فهذه الصيغة (مساجد) تفيد أن المنع ليس محصوراً على ما حصل في المسجد الحرام، بل يشمل أيضاً كل من يمنع الناس ويصدهم عن عبادة الله في أي مسجد من مساجد الأرض، وتلك جريمة عظيمة يستحق فاعلها عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة .
فإذا تبين لنا مقصود هذه الآية، علمنا عاقبة الشيوعيين الذين عطلوا أربعة عشر ألفاً من المساجد في سمرقند إبان الثورة الروسية، وعلمنا أيضاً عاقبة اليهود الذين يمنعون الناس ويصدونهم عن المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وعلمنا أيضاً عاقبة من يمنع المسلمين في بلاد الإسلام من العبادة في المساجد التي أذن الله أن يُذكر فيها اسمه