نكبة فلسطين" تاريخ يشهد على زيف السلام
للذاكرة معنى جليل، فهي الحقيقة التي لا تنمحي أبدا، وهي شاهد الماضي والحاضر والمستقبل، لا تستطيع أن تحرف حقائقها، وهي تفضح المتلاعبين بالألفاظ والمصطلحات والهوية والآمال والمبادئ والحقوق، هكذا هي الذاكرة ساطعة في كل لحظة، صارخة في كل آن، نافضة غبار التناسي، فاضحة منطق الغصب والتزوير والزيف.
نعم هذه الأيام حلت علينا ذكرى ما سمي ب"نكبة فلسطين"، أي ذكرى اغتصاب أرض فلسطين، وهي ذكرى لم تكن ليسعد بها هؤلاء المجروحون والمرحلون والحالمون بالعودة، لولا أن لها مقابلا عند العدو الغاصب، هذه الأيام ذكرى الغصب عند كل الشرفاء من الفلسطينيين، ومن أبناء هذه الأمة العربية والإسلامية، وهي ذكرى تأسيس كيان الغصب عند هؤلاء الصهاينة القتلة والمجرمين، أما عند "مناضلي الفنادق"، ومحترفي الجلوس على طاولة "المفاوضات"، عاشقي عدسات الكاميرات، وهي تلتقط كلامهم السخيف عن "السلام العادل" و"خارطة الطريق" و"وعد بوش" و...، فإنها ذكرى، يتمنى منطقهم الانهزامي أن تمر أيامها بسرعة، ذلك لأنها تشوش على نواياهم الصادقة مع العدو المحتل للأرض، في رغبتهم في الحوار والتفاوض، فيا ليت هذه الأيام لم تحل عندهم. و يالها من مفارقة غريبة، يحييها العدو ويحتفل بها وتمنحه جرعة أخرى في استمرار إرادة الغصب والاحتلال، بينما لا يقبلها منطق عشاق "السلام والمفاوضات" الانهزامي حتى النخاع، أرأيتم لماذا؟ تعالوا لكي أسر لكم هذا "السر العلني" الذي تفضحه هذه الذاكرة الحية.
ذاكرة "النكبة" هذه، تعيد جدولة المطالب التاريخية للفلسطينيين بشكل تلقائي، وترتبها وتربط العلة بالمعلول، وتفرز الجلاد عن الضحية، وتعري حقيقة الغصب:
* فهي تذكرنا بأن الأرض الفلسطينية كل الأرض الفلسطينية مغتصبة،
* هي لا تساوم بين أراضي 48 وأراضي 67، هي تعيد عقارب زمن الاحتلال إلى الأصل، وتقول بصوت مرتفع، كل الكيان الصهيوني غاصب، كل أراضي فلسطين مغتصبة،
* هي ترجع بنا إلى حقيقة موازين القوى الدولية، وحقيقة الشرعية الدولية، لتسائلها بل تحاكمها هل هي فعلا عادلة؟ هل هذا المنتظم الدولي جاء ليعيد الحق إلى أصحابه، وليقيم العدل في البلاد والعباد؟ وهل شرعنة الاحتلال تعد عدلا؟ وماذا يعني إذن قرار التقسيم الذي منح الشرعية وغطاء الدوليتين، لقيام هذا الكيان الغاصب؟ تجيبنا هذه الذاكرة: قرار التقسيم جائر، وما انبنى عليه كله جائر وباطل، مادام هذا الكيان الصهيوني قام على اغتصاب أرض ليست له، إن هذا القرار حرف الحقيقة، من مشكلة احتلال وغصب، إلى مشكلة أراض متنازع عليها، و يا للعار صار على "هدى" هذا القرار و"منطقه الاحتلالي" عشاق "السلام والمفاوضات" حتى النخاع،
* هي تفضح مأساة أكثر من 6 ملايين لاجئ فلسطيني، هجروا من أراضيهم وقراهم ومنازلهم في فلسطين، وتذكر بها، وتنبه المتغافلين الذين أرادوا تناسيها، هي تقول لهؤلاء، مطلب العودة إلى الديار هو مطلب وجودي استراتيجي ولا محيد عنه، هؤلاء المهجرون واللاجئون الفلسطينيون هم الذين يرسمون بمأساتهم اليومية، وبهويتهم غير المعرفة أو المؤقتة، طريق العودة لا محالة، ويذكرون بمأساتهم حقيقة احتلال الأرض، ويعيدون مسار حقيقة التدافع إلى سكته الحقيقية، فما أشد من أن يحرف مسار حقيقة التدافع عن سكته الأصلية، فتلك أم الخيانات، ألست محقا ياسادة، فليكذبني أحد إن كنت مخطأ،
* هي تصحح بدماء الشهداء والجرحى، وبأحلام المهجرين بالعودة بنود التحرير التي "عدلت" في ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، إرضاء لمسلسل "السلام المزعوم"، فتقول الأرض كل الأرض، لا اعتراف بكيان صهيوني غاصب، وهي تصيح مستعرضة بطولات المقاومين الفلسطينيين والعرب من 48 إلى الآن، مقاومة المحتل خيار استراتيجي لا محيد عنه، وما دونه من حلول أحادية تلغي المقاومة من خياراتها وهم في وهم، وإلا فلتسألوا هذه الذاكرة ماذا حقق خيار "المفاوضات وإلقاء البندقية"؟ هل حرر الأرض؟ هل أعاد اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم الأصلية وقراهم؟ الذاكرة تشهد أن خيار "المفاوضات وإلقاء البندقية" خانها، وتنكر لخزانها المليء بالاحتلال والمجازر، والمليء أيضا ببطولات الشرفاء من المقاومين،
* هذه الذاكرة تسقط خيارات الحلول المؤقتة التي تنادت بها الإدارة الأمريكية، وهي تشهد بذلك في هذه السنة وفي سنوات مقبلة، تشهد بذلك وقد شاركت الإدارة الأمريكية الصهاينة "حفلهم بذكرى تأسيس الكيان الصهيوني"، فأي حلول مؤقتة/نهائية بلغة هذه الذاكرة، قد تنتظر ممن يشارك الغاصب في ذكرى اغتصابه للأرض؟ ذاكرة الغصب تقول، أن "مدرسة المفاوضات وإلقاء السلاح" التي يتحرك روادها راهنا، بكتاباتهم وتحركاتهم "و نضالاتهم الفندقية"، من أحط ما أنتجته مدارس المقاومات في المجتمعات البشرية عبر التاريخ، وهي تستدعي هؤلاء لزيارة أروقة النضالات الحقة عبر التاريخ ليتأكدوا بالملموس أن "المفاوضات وإلقاء السلاح" لا يلتقيان أبدا، في منطق تحرير الأرض من المحتلين.
إلى هنا، تنتهي حلقة التذكير بالأحلام والمبادئ والآمال والتطلعات والتاريخ والمستقبل والمصير، وإلى هنا تضرب لنا هذه الذاكرة موعدا آخر معها قد يصبح مع توالي أحداث الغصب ومخلفاته، موعدا يوميا بل آنيا، فلن تتلقح أرض فلسطين بغير ثقافة المقاومة، ولن تنسى الذاكرة ذاكرتها، الكيان الصهيوني غاصب، والاحتلال يظل احتلالا ولو تبدلت موازين القوى المادية، والحق سيظل حقا، والباطل سيظل باطلا، والظلم سيظل ظلما، والذاكرة لا يمكن أن تغير من ذاكرتها التي تذكرنا دوما بأصالة هذه المفاهيم والمقولات والاعتقادات، لا يمكن أن تغير من ذاكرتها لسبب بسيط وأبسط، فقط لأنها ذاكرة... تصبحون عليها مرة أخرى...
بقلم د.أحمد الأنصاري بوعشرين مكناس المغرب